فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}.
لما جعلت قريش سؤالها عن الله تعالى وعن اسمه هو الرحمن سؤالًا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بربوبيته، والبروج هي التي علمتها العرب بالتجربة وكل أمة مصحرة وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات وكل برج منها على منزلتين وثلث من منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله: {والقمر قدرناه منازل} [يس: 39] والعرب تسمي البناء المرتفع المستغني بنفسه برجًا تشبيهًا ببروج السماء. ومنه قوله تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيّدة} [النساء: 78]. وقال الأخطل: البسيط:
كأنها برج روميّ يشيدُه ** لز بجص وآجور وأحجار

وقال بعض الناس في هذه الآية التي نحن فيها البروج القصور في الجنة، وقال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤونها {في السماء قصورًا}، وقيل البروج الكواكب العظام حكاه الثعلبي عن أبي صالح، وهذا نحو ما بيناه إلا أنه غير ملخص، وأما القول بأنها قصور في الجنة فقول يحط غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل به. وقرأ الجمهور {سراجًا} وهي الشمس، وقرأ حمزة الكسائي وعبد الله بن مسعود وعلقمة والأعمش {سرجًا} وهو اسم جميع الأنوار، ثم خص القمر بالذكر تشريفًا، وقرأ النخعي وابن وثاب والأعمش أيضًا {سرْجًا} بسكون الراء، قال أبو حاتم روى عصمة عن الحسن {وقُمُرًا} بضم القاف ساكنة الميم ولا أدري ما أراد أن يكون عنى جمعًا كثمر وثمر وقال أبو عمرو وهي قراءة الأعمش والنخعي، وقوله: {خلفة} أي هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، ومن هذا المعنى قول زهير: الطويل:
بها العين والأرآم يمشين خلفة ** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا يزيد بن معاوية: المديد:
ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت ** سكنت من جلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة ** حولها الزيتون قد ينعا

وقال مجاهد: {خلفة} من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، وما قدمناه أقوى، وقال مجاهد وغيره من النظار {لمن أراد أن يذكر} أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر، وقال عمرو بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه {لمن أراد أن يذكر} ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده {يذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي، وقرأ الباقون {يذّكر} بشد الذال، وفي مصحف أبي بن كعب {يتذكر} بزيادة تاء، ثم قال تعالى: {لمن أرد أن يذكر أو أراد شكورًا} جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بُروجًا وجعل فيها سِراجًا} قد شرحناه في [الحجر: 16].
والمراد بالسراج: الشمس.
وقرأ حمزة، والكسائي: {سُرُجًا} بضم السين والراء وإِسقاط الألف.
قال الزجاج: أراد: الشمس والكواكب العظام؛ ويجوز {سُرْجًا} بتسكين الراء، مثل رُسْل ورُسُل.
قال الماوردي: لما اقترن بضوء الشمس وهج حَرِّها، جعلها لأجل الحرارة سراجًا، ولمّا عدم ذلك في القمر جعله نورًا.
قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً} فيه قولان:
أحدهما: أن كل واحد منهما يخالف الآخر في اللون، فهذا أبيض، وهذا أسود، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال قتادة.
والثاني: أن كل واحد منهما يَخْلُفُ صاحبه، رواه عمرو بن قيس الملائي عن مجاهد، وبه قال ابن زيد وأهل اللغة، وأنشدوا قول زهير:
بِهَا العِينُ والآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ** وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ

أي: إِذا ذهبت طائفة جاءت طائفة.
قوله تعالى: {لِمَن أراد أن يَذَّكَّر} أي: يتَّعظ ويعتبر باختلافهما.
وقرأ حمزة: {يَذْكُرَ} خفيفة الذال مضمومة الكاف، وهي في معنى: يتذكَّر، {أو أراد} شُكْر الله تعالى فيهما. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا}.
أي منازل؛ وقد تقدّم ذكرها.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} قال ابن عباس: يعني الشمس؛ نظيره: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 16].
وقراءة العامة: {سِرَاجًا} بالتوحيد.
وقرأ حمزة والكسائيّ: {سُرُجًا} يريدون النجوم العظام الوقادة.
والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأوّل أن السُّرُج النجوم، وأن البروج النجوم؛ فيجيء المعنى نجومًا ونجومًا.
النحاس: ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلِب قال: السرج النجوم الدراريّ.
الثعلبي: كالزهرة والمشترِي وزحل والسماكين ونحوها.
{وَقَمَرًا مُّنِيرًا} ينير الأرض إذا طلع.
وروى عِصمة عن الأعمش {وَقُمْرا} بضم القاف وإسكان الميم.
وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال: لا تكتبوا ما يحكيه عِصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عِصمة هذا.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}.
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخِلفة كل شيء بعد شيء.
وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه.
ويقال للمبطون: أصابته خِلفة؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك.
ومنه خلفة النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأوّل في الصيف.
ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سُلْمى:
بها العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلْفةً ** وأَطْلاَؤهَا يَنْهضنَ من كُلِّ مَجثَمِ

الرئم ولد الظبي وجمعه آرام؛ يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج.
ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا:
ولها بالماطرونِ إذا ** أَكلَ النملُ الذي جَمعَا

خِلْفةً حتى إذا ارتبعتْ ** سَكَنتْ مِنْ جلّقٍ بِيَعَا

في بيوت وَسْطَ دَسْكَرةٍ ** حولَها الزيتونُ قد يَنَعَا

قال مجاهد: {خِلْفَةً} من الخلاف؛ هذا أبيض وهذا أسود؛ والأوّل أقوى.
وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان.
وقيل: هو من باب حذف المضاف؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خِلفة، أي اختلاف.
{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثًا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم.
وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
وفي الصحيح: «ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلّي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة» وروى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل».
الثانية: قال ابن العربيّ: سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول: إن الله تعالى خلق العبد حيًا عالمًا، وبذلك كماله، وسلّط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخِلقة؛ إذ الكمال للأوّل الخالق؛ فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل.
ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوًا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمرِه في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغنيّ الوفيّ الذي ليس بعديم ولا ظلوم.
الثالثة: الأشياء لا تتفاضل بأنفسها؛ فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات.
وقد اختلف أيّ الوقتين أفضل، الليل أو النهار.
وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم؛ قاله ابن العربي.
قلت: والليل عظيم قدره؛ أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79]، وقال: {قُمِ الليل} [المزمل: 2] على ما يأتي بيانه.
ومدح المؤمنين على قيامه فقال: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} [السجدة: 16].
وقال عليه الصلاة والسلام: «والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى» حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قرأ حمزة وحده: {يَذْكُرَ} بسكون الذال وضم الكاف.
وهي قراءة ابن وثّاب وطلحة والنَّخَعيّ.
وفي مصحف أبيّ {يَتذَكَّر} بزيادة تاء.
وقرأ الباقون: {يَذَّكَّر} بتشديد الكاف.
ويَذْكُرَ ويَذَّكَّر بمعنى واحد.
وقيل: معنى {يَذْكُرَ} بالتخفيف أي يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها.
{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} يقال: شكر يشكر شكرًا وشكورًا، مثل كفر يكفر كفرًا وكفورًا.
وهذا الشكور على أنهما جعلهما قوامًا لمعاشهم.
وكأنهم لما قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} قالوا: هو الذي يقدر على هذه الأشياء. اهـ.